تفسير ابن كثير تفسير الصفحة 390 من المصحف



تفسير ابن كثير - صفحة القرآن رقم 390

390 : تفسير الصفحة رقم 390 من القرآن الكريم

** فَلَمّا جَآءَهُم مّوسَىَ بِآيَاتِنَا بَيّنَاتٍ قَالُواْ مَا هَـَذَآ إِلاّ سِحْرٌ مّفْتَرًى وَمَا سَمِعْنَا بِهَـَذَا فِيَ آبَآئِنَا الأوّلِينَ * وَقَالَ مُوسَىَ رَبّيَ أَعْلَمُ بِمَن جَآءَ بِالْهُدَىَ مِنْ عِندِهِ وَمَن تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدّارِ إِنّهُ لاَ يُفْلِحُ الظّالِمُونَ
يخبر تعالى عن مجيء موسى وأخيه هارون إلى فرعون وملئه وعرضه ما آتاهما الله من المعجزات الباهرة, والدلالة القاهرة على صدقهما فيما أخبرا به عن الله عز وجل من توحيده واتباع أوامره, فلما عاين فرعون وملؤه ذلك وشاهدوه وتحققوه, وأيقنوا أنه من عند الله, عدلوا بكفرهم وبغيهم إلى العناد والمباهتة, وذلك لطغيانهم وتكبرهم عن اتباع الحق فقالوا {ما هذا إلا سحر مفترى} أي مفتعل مصنوع, وأرادوا معارضته بالحيلة والجاه فما صعد معهم ذلك.
وقوله: {وما سمعنا بهذا في آبائنا الأولين} يعنون عبادة الله وحده لا شريك له, يقولون: ما رأينا أحداً من آبائنا على هذا الدين, ولم نرَ الناس إلا يشركون مع الله آلهة أخرى, فقال موسى عليه السلام مجيباً لهم {ربي أعلم بمن جاء بالهدى من عنده} يعني مني ومنكم, وسيفصل بيني وبينكم, ولهذا قال: {ومن تكون له عاقبة الدار} أي من النصرة والظفر والتأييد {إنه لا يفلح الظالمون} أي المشركون بالله عز وجل.

** وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَأَيّهَا الْملاُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مّنْ إِلَـَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَهَامَانُ عَلَى الطّينِ فَاجْعَل لّي صَرْحاً لّعَلّيَ أَطّلِعُ إِلَىَ إِلَـَهِ مُوسَىَ وَإِنّي لأظُنّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ * وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الأرْضِ بِغَيْرِ الْحَقّ وَظَنّوَاْ أَنّهُمْ إِلَيْنَا لاَ يُرْجَعُونَ * فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمّ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظّالِمِينَ * وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمّةً يَدْعُونَ إِلَى النّارِ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ لاَ يُنصَرُونَ * وَأَتْبَعْنَاهُم فِي هَذِهِ الدّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ القِيَامَةِ هُمْ مّنَ الْمَقْبُوحِينَ
يخبر تعالى عن كفر فرعون وطغيانه وافترائه في دعواه الإلهية لنفسه القبيحة لعنه الله, كما قال الله تعالى: {فاستخف قومه فأطاعوه} الاَية, وذلك لأنه دعاهم إلى الاعتراف له بالإلهية, فأجابوه إلى ذلك بقلة عقولهم وسخافة أذهانهم, ولهذا قال: {يا أيها الملأ ما علمت لكم من إله غيري} وقال تعالى إخباراً عنه: {فحشر فنادى * فقال أنا ربكم الأعلى * فأخذه الله نكال الاَخرة والأولى * إن في ذلك لعبرة لمن يخشى} يعني أنه جمع قومه, ونادى فيهم بصوته العالي مصرحاً لهم بذلك, فأجابوه سامعين مطيعين, ولهذا انتقم الله تعالى منه, فجعله عبرة لغيره في الدنيا والاَخرة, وحتى إنه واجه موسى الكليم بذلك, فقال: {لئن اتخذت إلهاً غيري لأجعلنك من المسجونين}.
وقوله: {فأوقد لي يا هامان على الطين فاجعل لي صرحاً لعلي أطلع إلى إله موسى} يعني أمر وزيره هامان ومدبر رعيته ومشير دولته أن يوقد له على الطين, يعني يتخذ له آجراً لبناء الصرح وهوالقصر المنيف الرفيع العالي, كما قال في الاَية الاَخرى: {وقال فرعون يا هامان ابن لي صرحاً لعلي أبلغ الأسباب أسباب السموات فأطلع إلى إله موسى وإني لأظنه كاذباً وكذلك زين لفرعون سوء عمله وصد عن السبيل وما كيد فرعون إلا في تباب} وذلك لأن فرعون بنى هذا الصرح الذي لم يرَ في الدنيا بناء أعلى منه, إنما أراد بهذا أن يظهر لرعيته تكذيب موسى فيما زعمه من دعوى إله غير فرعون, ولهذا قال: {وإني لأظنه من الكاذبين} أي في قوله: إن ثم رباً غيري, لا أنه كذبه في أن الله تعالى أرسله لأنه لم يكن يعترف بوجود الصانع جل وعلا, فإنه قال: {وما رب العالمين ؟} وقال: {لئن اتخذت إلهاً غيري لأجعلنك من المسجونين} وقال {يا أيها الملأ ما علمت لكم من إله غيري} وهذا قول ابن جرير.
وقوله تعالى: {واستكبر هو وجنوده في الأرض بغير الحق وظنوا أنهم إلينا لا يرجعون} أي طغوا وتجبروا, وأكثروا في الأرض الفساد, واعتقدوا أنه لا قيامة ولا معاد {فصب عليهم ربك سوط عذاب إن ربك لبالمرصاد} ولهذا قال تعالى ههنا: {فأخذناه وجنوده فنبذناهم في اليم} أي أغرقناهم في البحر في صبيحة واحدة, فلم يبقَ منهم أحد {فانظر كيف كان عاقبة الظالمين * وجعلناهم أئمة يدعون إلى النار} أي لمن سلك وراءهم وأخذ بطريقتهم في تكذيب الرسل وتعطيل الصانع {ويوم القيامة لا ينصرون} أي فاجتمع عليهم خزي الدنيا موصولاً بذل الاَخرة, كما قال تعالى: {أهلكناهم فلا ناصر لهم}. وقوله تعالى: {وأتبعناهم في هذه الدنيا لعنة} أي وشرع الله لعنتهم ولعنة ملكهم فرعون على ألسنة المؤمنين من عباده المتبعين لرسله, كما أنهم في الدنيا ملعونون على ألسنة الأنبياء وأتباعهم كذلك {ويوم القيامة هم من المقبوحين} قال قتادة: وهذه الاَية كقوله تعالى: {وأتبعوا في هذه لعنة ويوم القيامة بئس الرفد المرفود}.

** وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِن بَعْدِ مَآ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الاُولَىَ بَصَآئِرَ لِلنّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لّعَلّهُمْ يَتَذَكّرُونَ
يخبر تعالى عما أنعم به على عبده ورسوله موسى الكليم, عليه من ربه أفضل الصلاة والتسليم, من إنزال التوارة عليه بعد ما أهلك فرعون وملأه. وقوله تعالى: {من بعد ما أهلكنا القرون الأولى} يعني أنه بعد إنزال التوارة لم يعذب أمة بعامة بل أمر المؤمنين أن يقاتلوا أعداء الله من المشركين, كما قال تعالى: {وجاء فرعون ومن قبله والمؤتفكات بالخاطئة * فعصوا رسول ربهم فأخذهم أخذة رابية} وقال ابن جرير: حدثنا ابن بشار, حدثنا محمد وعبد الوهاب قالا: حدثنا عوف عن أبي نضرة عن أبي سعيد الخدري قال: ما أهلك الله قوماً بعذاب من السماء ولا من الأرض بعد ما أنزلت التوارة على وجه الأرض غير أهل القرية الذين مسخوا قردة بعد موسى, ثم قرأ {ولقد آتينا موسى الكتاب من بعد ما أهلكنا القرون الأولى} الاَية, ورواه ابن أبي حاتم من حديث عوف بن أبي جميلة الأعرابي بنحوه, وهكذا رواه أبو بكر البزار في مسنده عن عمرو بن علي الفلاس عن يحيى القطان عن عوف عن أبي نضرة, عن أبي سعيد موقوفاً, ثم رواه عن نصر بن علي عن عبد الأعلى عن عوف, عن أبي نضرة عن أبي سعيد رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما أهلك الله قوماً بعذاب من السماء ولا من الأرض إلا قبل موسى» ثم قرأ {ولقد آتينا موسى الكتاب من بعد ما أهلكنا القرون الأولى} الاَية. وقوله: {بصائر للناس وهدى ورحمة} أي من العمى والغي, وهدى إلى الحق ورحمة, أي إرشاداً إلى العمل الصالح {لعلهم يتذكرون} أي لعل الناس يتذكرون به ويهتدون بسببه.